بسم الله الرحمن الرحيم
لم يعد خافيًا حجم الأثر المخرِّب الذي تتركه الحروب الناعمة على مستوى قيم وثقافة وهويّة المعتدَى عليه، كما لا يُعدّ الحديث عن خطط ومؤامرات الغرب بخاصَّة الأميركيّ في التغيير الناعم من مترف القول والتبادل الثقافي، إذ أصبح واقعًا نتلمّسه في الكثير من مفاصل الحياة اليوميَّة والعامة.
تحدّث الكثيرون عمّا تُنتجه مراكز الدراسات الأميركيَّة من خطط وبرامج لإيجاد تحول وتغيير على مستوى العقول؛ فكانوا يعبّرون عنها تارةً بقصف العقول وتارةً أخرى بالتلاعب بالعقول، وثالثةً بما يدل على الصناعة وإيجاد ما يساهم في تكوّنها من جديد. ولعل من أبرز ما يشير اليوم إلى هذه الحقائق ما تزخر به مجتمعات العالم الإسلاميّ على وجه الخصوص من عشرات لا بل بمئات الجمعيَّات والمنظّمات والتيَّارات، بالإضافة إلى ما يستهدفها عبر وسائل وأدوات المعرفة الجديدة، وعبر الثقافة التي تقدَّم عبر منصاتها .... وكلّها تتمحور حول تقديم نموذج ونمط للتفكير والحياة ينسجم مع قيم وثقافة المستعمر الجديد.
إذا أردنا الحديث عن ضحايا هذا الاستهداف، فهو من دون شك، قيم ومعتقدات وعادات وتقاليد الشعوب، وهذا يعني إعادة تشكيل الهويَّة على أَسس أخرى. إنّ المظاهر التي نشاهدها تغزو المجتمعات الإسلاميَّة يومًا بعد يوم، تُعدّ من أكبر مظاهر التحلّل من القيم الإسلاميَّة والإنسانيَّة والغرق في مستنقع ما يريده الغرب لمجتمعاتنا. لذلك أكّد الإمام السيد علي الخامنئي (دام ظله) على حقيقة: "أن اعداء الجمهورية الإسلاميَّة الايرانيَّة والإسلام يلجأون اليوم إلى الحرب الناعمة..." وحددّ مظاهرها وأهدافها وهي عبارة عن: "إسكات أو إضعاف الدوافع الدينيَّة للشعب الإيراني وأنّ كل ما يجري في البلاد ضد الدين والتقاليد والمقدّسات والطقوس الدينيَّة يعود إلى النوايا السياسيَّة للعدو"[1].
أما أهميَّة هذا الكلام -وكذلك العديد من الكلمات والعبارات التي تحدث بها الإمام السيد علي الخامنئي (دام ظله) في العديد من المناسبات- لا تترك مجالًا للشكّ بأنَّ ما يلجأ إليه العدو هو حرب حقيقية، لا يجب الاستهانة بها أو التهاون في ايجاد آليَّات مواجهتها، وإعداد العدّة الضروريَّة لحفظ قيم الدين في المجتمعات.
والسؤال الذي يطرح نفسه: ما هي آليّات وأساسيَّات الدخول في مواجهة الحرب الناعمة التي يشنّها العدو؟ هذا ما سيحاول هذا المقال الإشارة إليه من خلال كلمات وإرشادات الإمام السيد علي الخامنئي (دام ظله)، على أمل أن تكون هذه المشاركة مدخلًا للتفكير الجدّي في إيجاد الآليَّات العمليَّة للمواجهة عند المهتمين.
إنّ معرفتنا بالعدو وطرق استهدافاته وأساليب عمله، تتيح المجال لفهم النتائج والآثار التي تترتّب على مؤامراته. وعندما يتمكّن الإنسان من معرفة ذلك، يصل إلى مرحلة القناعة بالنتائج التي ستتحقّق، ويبادر أوّلًا إلى إعادة النظر في هويّته، وإيجاد الطرق والأساليب التي تُمكّنه من رفض القيم الوافدة. وهنا يبرز أهميّة الدور الذي تقوم به النخب، والعارفون بخفايا محاولات العدو، لأنَّ المعرفة تتوقّف على جهودهم، فليس بمقدور كل شخص إدراك المؤامرات.
من هذا المُنطلق يشددّ الإمام السيد علي الخامنئي (دام ظله) على اليقظة أمام محاولات الأعداء ويبيّن الاستهداف والدور الذي ينبغي أن تؤدّيه النخب، يقول: "يجب على الشعب الإيرانيّ أن يزيد من وعيه واطّلاعه بنفس النسبة التي يقوم العدوّ بتعقيد أساليبه في مؤامراته ضدّ إيران الإسلاميّة، وأن يشخّص وجه العدوّ في أيّ لباسٍ كان عن طريق الجهوزيّة المعنويّة، الفكريّة والسياسيّة، وحفظ وحدته وتواصله وارتباطه مع بعضه البعض".[2]
ويضيف سماحته في مكان آخر:
"اليوم، يستخدم العدوّ وبشكلٍ واسع أدواته المتعدّدة في غزوه لأُسس الشعب الثقافيّة والاعتقاديّة ومن أهداف الغزو الثقافيّ المهمّة تحقير التيّار الأدبيّ والفنيّ والثقافيّ الثوريّ في البلد ونتيجةً لذلك انزواء العناصر الثقافيّة، الأديبّة والفنّانة وكذلك صرف الشباب المؤمن عن تمسّكه بإيمانه واعتقاداته. لذا، إنّ يقظة ووعي الشعب الإيرانيّ وخصوصًا العناصر الثقافيّة في سبيل مواجهة ذلك لضرورةٌ حيويّة".[3]
من جهة أخرى فإن من أساسيَّات اليقظة والوعي أمام العدو، التدبير في التعامل معه وعدم الانفعال من محاولاته، بل اتخاذ جانب التخطيط والتفكير، لذلك يقول الإمام السيد علي الخامنئي (دام ظله) في هذا الشأن: "من المهمّ جدًّا أن لا يُبتلى الإنسان بالانفعال أمام العدوّ. فاليوم تقوم كلّ جهود العالم الماديّ المستكبر – يعني هذه الدول الاستكباريّة التي تملك زمام المسائل الاقتصاديّة والتسليحيّة وحتّى في موارد كثيرة، الثقافيّة للكثير من البلدان- على تشتيت المقاومات أينما وُجدت عن طريق جعلها منفعلة. فالانفعال أمام العدوّ، أكثر الأعمال غلطًا، وأكبر الأخطاء"[4].
كما أنّ من دواعي وضروريَّات اليقظة والوعي، الاهتمام لما يقدّمه العدو وما يروّج له، والدقّة في اختيار ما يرسله، فهناك الكثير من المفاهيم والقيم التي يقدمّها العدو، والتي تتجلّى في صورة سلعة أو بضاعة أو ما شابه ذلك، لا يمكن بدون أيّ قيدٍ أو شرطٍ، قبول كلّ ما يرسلونه من خلف الحدود، وهو أعمّ من بضائع، سِلع ثقافيّة وكذلك التيّارات الدعائيّة والثقافيّة. فالعدوّ يترصّد كامنًا، ويكمُن للشباب على وجه الخصوص. انظروا إلى تلك الدعايات التي يقومون بها، لا يتمّ العمل أو التفوّه ولو بكلمة واحدة في سبيل رشد ورُقي فكر الناس. بل تصبّ دعايات وإعلام العدوّ في سبيل التهديم والإفساد، وفي سبيل تعطيل طاقة الشباب في العمل والفكر والجسم؛ يجب مواجهة ذلك بحذر.
تظهر الغفلة في بداية الأمر كواقع يدفع نحو التساهل والتغاضي عن ثقافة الآخر الوافدة، والأثر الذي يترتب عليها، لا بل يشكّك في أنّ العدو يستهدفه أم لا. إنّ عدم الغفلة هي بداية المعرفة والوعي بالذات والآخر وإدراك حقائق الأمور كما هي. وفي المقابل فإن اليقظة أمام هذا الواقع، بداية الحركة وانطلاق العمل في سبيل التحصين وإيجاد البدائل المنسجمة مع قيم الهويَّة الذاتيَّة.
يتحدّث الإمام السيد علي الخامنئي (دام ظله) عن الغفلة في القضايا الثقافيَّة والآثار المترتّبة عليها، لا بل والمسؤوليَّات في هذا الإطار فيقول: "اليوم، برأيي من أكثر الأمور خطرًا في الداخل، الأساليب الثقافيّة. ومن أكثر قضایانا أساسيّةً، القضايا الثقافيّة وأنا أشعر أنّه في مجال الإدارة الثقافيَّة الإسلاميّة في هذا المجتمع قد ابتُلينا بنوعٍ من الغفلة والإغماء –أو قد أصبحنا-، إذ ينبغي علاج هذا الأمر بسرعة وبوعيٍّ"[5]. ويضيف سماحته:
"نحن نواجه غزوًا وحربًا حقيقيّةً ومنظّمة حيث يتمّ تنفيذها بطرقٍ مختلفة وجدًّا فنّيّة والذين لديهم حساسيّة نسبةً للمسائل الثقافيّة، سيلتفتون إلى مسألة الغزو الثقافيّ وسيشاهدون العلائم البارزة والتي لا تُحصى في هذا المجال. بناءً عليه، العمل الثقافيّ في إيران مسألةٌ لا يمكن للحظةٍ الغفلة عنها"[6].
البصيرة هي الوعي، والتنبه والتيقظ، والإرشاد والتوجيه، وهي رسم الاتجاه والوجهة[7]. وانطلاقًا من هذا المعنى فهي أمرٌ ضروريّ ومحوريّ في فَهم الدين والقيم والمعتقد... ؛ فَهم يدلّ على القناعة الراسخة البعيدة عن الأوهام والتصوّرات الخاطئة. وبواسطتها يتمكّن الفرد الاقتراب أكثر من فهم معتقداته وإدراك ما يهدّدها ومن ثم المبادرة إلى الدفاع عنها بخاصَّة عند دخول القيم الأخرى المنافية.
وبما أنّ البصيرة ذات أهميَّة في المعرفة واليقين يعمل العدو في الحرب الناعمة على استهدافها من خلال إلقاء الشبهات وتزوير الحقائق وحتى من خلال إعادة بناء الأذهان عند الأجيال الناشئة. من هذا المنطلق كان امتلاك البصيرة وتجذّر حضورها في ضمير الإنسان عاملًا أساسيًا في المواجهة. لذلك يقول الإمام السيد علي الخامنئي (دام ظله): "ينبغي التحلّي بالبصيرة. ما يتوقّعه المرء من النخب في المجتمع ومن التيّارات والفئات السياسيّة هو أن يتعاملوا مع هذه الأحداث ومع خطوط العدو ببصيرة. إذا كانت هناك بصيرة وكانت ثمّة إرادة للمواجهة فقد تتغيّر الكثير من سلوكيّاتنا؛ وعندئذٍ يصبح الحال أفضل، بعض الأعمال وليدة عدم التحلّي بالبصيرة"[8].
وحول ضرورتها والفائدة المرجوة منها يقول سماحته: "إذا امتلك شعبًا ما البصيرة، فإنّه سوف يتحرّك ويخطو بوعيٍّ، وسوف تُقتلع كلّ أشواك العدوّ أمامه. عندها، لا تستطيع غبار الفتنة أن تضلّه وتلقيه في الأخطاء. فإن لم تكن البصيرة، سوف يخطو الإنسان أحيانًا –ولو كانت نيّته حسنة- في طريقٍ سيء. في جبهة الحرب، إن لم تكونوا تعرفون الطريق، أو تجهلون قراءة الخارطة، أو لم يكن لديكم بوصلة، فإذا بكم ترون أنفسهم قد حوصرتم من قِبل العدوّ؛ لقد سلكتم الطريق بلا طائل، فتسلّط عليكم العدوّ. هذه البوصلة هي تلك البصيرة... لا يمكن الحركة في الحياة الاجتماعيّة المعاصرة المعقّدة دون بصيرة. يجب على الشباب أن يفكّروا، ويتفكّروا ويرفعوا من مستوى بصيرتهم. ويجب على العلماء، والملتزمون في مجتمعنا من أهل الثقافة والعلم أن يهتمّوا بمسألة البصيرة؛ البصيرة في الهدف، البصيرة في الوسيلة، في معرفة العدوّ، في معرفة عوائق الطريق، البصيرة في معرفة طرق اجتناب هذه العوائق وإزالتها؛ كلّ هذه البصيرة ضروريّة. عندما تكون البصيرة، عندها ستعلمون مع مَن تتعاملون، وستحملون الأدوات اللازمة معكم".[9]
يتبع في الجزء الثاني..
[1] من كلام الإما القائد خلال لقاءه مسؤولي المؤتمر الوطني لتكريم ذكرى شهداء العشائر الايرانية 12/6/2022.
[2] خطاب القائد في 12 /8/ 1380- 3/11/2001.
[3] لقاء القائد مع القائمين على وزارة التربية والتعليم في 21 /5/ 1371- 12/6/1992.
[4] لقاء القائد مع عوائل القادة الشهداء في محافظة طهران في 17 /2/ 1372- 7/5/1993
[5] لقاء القائد مع المسؤولين والعاملين في النظام في 14 /9/ 1369- 5/12/1990
[6] لقاء القائد مع أعضاء شورى الثورة الثقافيّة في 4 /11/ 1376- 24/1/1998
[7] راجع عبارات الإمام القائد بتاريخ: 29/3/1359 هـ .ش (19/6/1980م)
[8] من كلام الإمام القائد بتاريخ:2/7/1388- 24/9/2009
[9] اللقاء العامّ مع أهل چالوس ونوشهر في 15 /7/ 1388- 7/10/2009