بسم الله الرحمن الرحيم
جهاد التبيين والحرب الناعمة في فكر الإمام السيد علي الخامنئي (دام ظلّه)
السيد حسين قشاقش
تعتمد الدول الاستكباريّة اليوم على مفهوم جديد للحرب والنفوذ وهو مفهوم الحرب الناعمة، حيث يكون الغزو فكريًّا ثقافيًّا هادئًا بعيدًا عن الخسائر البشرية والاقتصاديّة، مع تحقيق الأهداف الاستعماريّة المرجوّة، وقد عرّف جوزيف ناي القوة الناعمة بأنها "القدرة على الحصول على ما تريد عن طريق الجاذبية بدلًا عن الإرغام.."
يستبطن مصطلح الحرب الناعمة الحديث عن الحرب كعمل هجومي يستهدف الطرف الآخر، مع ما تحمله الحرب من أهداف الإيذاء والإهلاك والهزيمة، ولا أقل من الانكسار والانصياع، تمامًا كما في الحرب الصلبة، إلّا أنّ تقييد الحرب بوصف الناعمة يجعلنا أمام حرب تختلف عن الحروب العنفيّة التي تعتمد إسالة الدماء وتدمير البنى التحتية للوصول إلى تلك الأهداف، فالحرب هذه ترتدي ثوبًا مخمليًا يخفي براثن مطلقها ويظهر ملمسًا ناعمًا يضلّل الفئة المستهدفة، فلا تتفطّن للدفاع عن نفسها فضلًا عن الردّ بهجوم مقابل.
وقد طبّق الأمريكيّون أنموذج الحرب الناعمة هذه خلال الفتنة على الجمهوريّة الإسلاميّة في إيران عام 2009، أثناء الانتخابات الرئاسيّة فيما أسموه بـ "الثورة الخضراء" وأولوا أهميّة كبرى لتلك الأحداث التي كانت ستطيح بالنظام الإسلامي بتصوّرهم. ثمّ أعادوا الكرّة في عدّة محاولات مشابهة محاولين استغلال بعض المطالب الاقتصاديّة والمعيشيّة للشعب الإيراني والذي سببه الأساس العقوبات القصوى التي فرضتها الولايات المتحدة الأمريكيّة والدول الأوروبيّة على إيران، إلّا أنّهم لم يفلحوا أيضًا، وصولًا إلى استغلال حادثة وفاة الفتاة الإيرانيّة مهسا أميني يوم 16 أيلول عام 2022، ليطرحوا نموذجًا متحوّرًا للحرب الناعمة على إيران يعتمد الاستهداف في أكثر من جبهة فيما أطلق عليه الإمام الخامنئي (دام ظلّه) الحرب المركّبة.
وهذا تحديث للأساليب المتبعة في الحرب الناعمة حيث لا تبقى على نسق واحد، بل قد تتخذ أشكالًا جديدة متحوّرة ينبغي رصدها والتحضير لمواجهتها.
ولا نستغرب هذه السياسة الأمريكيّة في وجه ايران، إذ كان قد أفصح عنها ناي قائلًا: "إنّ دولارًا واحدًا ينفق لشراء قرص فيديو DVD يحمله شاب أو فتى إيراني بمواجهة سلطة رجال الدين في معركة حرب الأفكار أجدى وأفضل بأضعاف من دفع 100$ لشراء أسلحة وموارد للمواجهة العسكرية مع إيران".
وكأيّ حرب أخرى، فإنّ الحرب الناعمة لها أدواتها وعناصرها التي تسخّرها لتحقيق أهدافها المرسومة، وتكون هذه القوى وأفعالها منسجمة مع الماهيّة الناعمة للحرب، فتحافظ على تلك السنخيّة، بعيدًا عن العنف وإثارة حفيظة الطرف المستهدف، وقد حدد جوزيف ناي المنظّر الأول لمصطلح القوة الناعمة عناصر القوّة في هذه الحرب بالتالي:
1- القيم الأميركية
2- جاذبية الرموز الأميركية (مشاهير، اعلام، منتجات...)
3- صورة أميركا وشرعية سياساتها الخارجية وتعاملاتها وسلوكياتها الدولية.
وبالإجمال ترتكز القوة الناعمة على جميع المؤثرات الإعلامية والثقافية والتجارية والعلاقات العامة، وكل مورد لا يدخل ضمن القدرات العسكريّة المصنّفة ضمن القوّة الصلبة.
يرى الإمام الخامنئي (دام ظلّه) أنّ "الحرب الناعمة، هي الحرب بواسطة الأدوات الثقافيّة والتغلغل والاندساس والكذب وبثّ الشائعات، بواسطة الأدوات المتطوّرة الموجودة حاليًّا...الحرب الناعمة تعني إيجاد الشك في قلوب الناس وأذهانهم"[1]
ويشير سماحته إلى بعض خصائص هذه الحرب بالآتي:
أ- طويلة الأمد: أي إن نتائجها تتحقق في المدى الطويل وليس دفعة كما هو الحال في الحرب العسكرية، ويُفهم من هذا الأمر أن الذي يمارس الحرب الناعمة يعكف على إعداد خطط تتحقق أهدافها في المدى الطويل وليس القصير. وهذا حال كل الحروب التي تتخذ من المعرفة والثقافة عناوين أساسية لها.
ب- غير منظورة وغير ملموسة: أي أن المستهدف بالحرب الناعمة غير مطلع وغير مدرك لحقيقة وجودها إذ أن العدو يقدمها في قالب معرفي وقيمي.
ج- معقدة وواسعة وشاملة: ليس من السهل اكتشاف وجود الحرب الناعمة فالعدو يتقدم إلينا بما هو جذاب وبما يحتل مكانًا ما في أفكارنا وعقولنا. فالحرب الناعمة لا تستهدف شخصًا أو مجموعة دون أخرى بل تستهدف كل من يحمل القيم المعاندة للعدو.
كما يحدّد سماحته بعض أهداف تلك الحرب الناعمة بالتالي:
1- استهداف الجوانب المعنوية والعقائدية والأيديولوجية في المجتمع الإسلامي ويندرج في هذا الإطار المكونات الأساسية للهوية والشخصية الحقيقية للمجتمع الإسلامي ومن جملة ذلك: القيم، الإيمان، العبودية، المعرفة...
2- تحويل نقاط القوة في المجتمع الاسلامي إلى نقاط ضعف وقيادة المجتمع نحو الانهيار والسقوط ويتجلى هذا الأمر بصورته التفصيلية في محاولات إسقاط النظام الاسلامي الذي يشكل الأساس للهوية الإسلامية ونقطة القوة البارزة في الشخصية الدينية.
3- الترويج للثقافة الغربية وتكريس القيم الوافدة بما يحمل ذلك من هدم للهوية الدينية في المجتمع.
4- تغيير القناعات وتبديل الإرادات وسوق الرأي العام نحو ما يحقق أهداف الأعداء فيكرس مصالحهم بعيدًا عن مصالح المجتمع الاسلامي.
5- بث الخلافات وإلقاء الفتن وإذكاء نار الاضطرابات داخل المجتمعات الاسلامية بما يمهد للسيطرة بكافة أشكالها.
أمام هذه الحرب الناعمة، يرى الامام الخامنئي (دام ظلّه) لزوم التبيين كسلاح رئيسي في مواجهتها، وذلك بعد التعرّف على وسائل العدو في الحرب الناعمة وكيفيّة التصدّي لها.
يرى الإمام الخامنئي (دام ظلّه) أنّ العدو يستغلّ الجهالة لدى عامّة الشعب وخواصّهم أيضًا ليصل إلى أهدافه ومآربه، وإحباط ذلك يكون عبر التبيين والتوضيح وكشف الحقائق.
ومن أساليب العدو المتبعة في هذا المجال:
1- أن يخفي وجهه في الميدان، فلا يعد باستطاعة الناس التمييز بين العدو والصديق، هنا التبيين يكشف خفاء العدوّ ويفضحه.
"أعداء الامة ينزعجون من الأجواء الواضحة والشفافة، فلا يسمحون بها، هم يريدون أجواء غبراء حتى يصلوا إلى مآربهم، ففي هذه الأجواء يمكن للعدو أن يخفي وجهه الحقيقي فينزل الميدان ويوجه ضربته"[2].
2- أن يعمد العدو الى تضخيم نقاط الضعف لدى الفئة المؤمنة
"إنّهم يكتمون الحقائق، إن كان هناك نقطة ضعف - هي موجودة بالطبع، فلا يوجد بلد ولا نظام بلا نقطة ضعف – يضخمون النقطة البسيطة مئات المرّات ويُظهرونها، هذا عمل عجيب يحدث اليوم ولهذا إنّ «جهاد التبيين» فريضة، «جهاد التبيين» فريضة حتميّة وفوريّة، وكل من يستطيع عليه ذلك"[3].
3- إخفاء العدو للنقاط الايجابيّة والمشرقة لدى الأمّة والعاملين
"هناك الآلاف من الملاحم تحدث في البلاد، كم هي الأعمال العظيمة التي تمّ إنجازها في البلاد خلال هذه السنوات، خلال هذه العقود الأربعة! كم هي الأعمال الملحميّة التي تمّ إنجازها! حسنًا، يجب بيان هذه الأمور، فالعدو يعمل على كتمانها ولا يسمح بنشرها"[4].
4- الدعوة إلى الحياد:
"البعض يقول في الفتنة هذه الرواية (كن فی الفتنة كابن اللّبون لا ظهر فیركب ولا ضرع فيحلب)[5]ويقصد بها معنى سلبيًا فلا يفهمها بشكل صحيح فيظن انها تعني تنحّ جانبًا، بينما المقصود بها هو ان لا تدع العدو يستغلك بأي وجه. ونحن رأينا عمار بن ياسر في صفين كيف كان مشغولا دائمًا بالخطابات فكان يبيّن للجماعات التي وقعت في الشبهات، .... أحيانا يكون السكوت والحياد عاملا مساعدا في الفتنة، بينما يجب على الجميع ان يملك البصيرة ويوضّح للآخرين"[6].
يرى الامام الخامنئي (دام ظلّه) أنّ العدوّ اليوم يخوض حربًا ناعمة ضدّ جبهة الحقّ والإسلام، وقد أصبحت أدواته المستخدمة في هذه الحرب أكثر قدرة وأكثر فتكًا، إلّا أنّ الامام الخامنئي يرى أنّ هذا الأمر يحمل مؤشرًا إيجابيًا فهو يكشف عن مدى الصعوبة التي يواجهها العدو في حربه، كما أنّه يحمّلنا مسؤوليّة تطوير سلاح المواجهة، والسلاح الأكثر فعالية في وجه الحرب الناعمة المطوّرة هو التبيين.
"هذه الحرب الناعمة والثقيلة التي شنها العدو ضدنا، تدل بالطبع على ازدياد قوة البنية التحتية وإمكانات جبهة الحق التي جعلت الصراع معها أمرًا صعبًا، وأدّت بالعدو إلى خوض الحرب الناعمة من أجل تخريب ذهنيات الناس... سبيل مواجهة الحرب الناعمة المعقدة للعدو هو جهاد التبيين، وكما لم يعد من الممكن استخدام الأدوات القديمة في الحرب الصلبة، يجب علينا تحديث أدواتنا في الحرب الناعمة أيضًا.
السلاح الأفضل والأكثر فعالية في الحرب الناعمة هو تبيين المفاهيم الإسلامية السامية، في مجال القضايا المعرفية ونمط العيش الإسلامي وتبيين قواعد الحاكمية الإسلامية"[7].
من هنا، يجب على القوى الناعمة الإسلاميّة الثوريّة، من مختلف شرائح المجتمع الإسلامي أن تبادر إلى ابتكار آليات مفيدة وجاذبة في إطار جهاد التبيين وفي كافّة الميادين.
والحمد لله ربّ العالمين
[1] من كلام الإمام الخامنئي بتاريخ 25/11/2009
[2] في لقاء مع أعضاء مجلس تنسيق الدعاية الإسلامية، 19/1/2010
[3] في لقاء مع قادة ومنتسبي القوّات الجويّة، 8/2/2022
[4] في لقاء مع قادة ومنتسبي القوّات الجويّة، 8/2/2022
[5] نهج البلاغة، جزء1، ص:469
[6] في لقائه أعضاء مجلس خبراء القيادة 24/12/2009
[7] لقاؤه أعضاء «مجلس خبراء القيادة» 10/3/2022