الأصلُ في عاشوراء أنها مَدْرَسَةٌ لِصِناعةِ الوعي، لإصلاحِ الذاتِ والمجتمعِ، لِجَعْلِهِما أكثرَ مَنَعَةً، أكثرَ من كونِها مجالًا للمواساةِ والتعبيرِ عن انتماءٍ مذهبيٍّ. ولذلك جاهر قائدُ ثورتِها، الإمامُ الحسين (ع)، بأن هدفَهُ الأساسَ هو الإصلاحُ، حتى لا تقعَ ملحمتُهُ الإنسانيةُ فريسةً لِذَوِي النزعةِ الانعزاليةِ الضيقةِ.
الأصلُ في الوعي هو أن نرى ونسمعَ الأمورَ على حقيقتِها وليس ظاهرَها؛ ومن ثم نُحسنَ الاختيارَ في مواقفِنا، واتجاهاتِنا، وقراراتِنا، وسلوكياتِنا. وهل من تعبيرٍ أوضحَ من اختراقِ الوعي لأمةِ محمد (ص)، حين ناصرت فسادَ (يزيد) وظلمَهُ، وخذلت تقوى (الحسين) وصلاحَهُ؟
ولأن التاريخَ على الدوامِ يعيدُ نفسَهُ، فنحن نعيشُ فترةً مليئةً بالتحدياتِ الكبيرةِ، وقد خرج يزيدُ من جديدٍ يحملُ سيفَ البطشِ والقهرِ والمكائدِ وشتى سُبُلِ التضليلِ، بينما تزحفُ أمةٌ بأكملِها نحو المنبرِ الحسينيِّ، وقد جلست في حضرتِه (في الحسينياتِ والمساجدِ والباحاتِ ووسائلِ الإعلامِ ومنصاتِ التواصلِ الاجتماعي)، أملًا بأن يجعلَها هذا المنبرُ أكثرَ وعيًا في مواجهةِ هذا التحدي الوجوديِّ الخطيرِ.
بلا شكٍّ، إن لهذا المنبرِ الحسينيِّ دورًا أساسًا وحاسمًا في كلِّ ما صنعناهُ من ثباتٍ وجهادٍ وانتصاراتٍ طيلةَ العقودِ الماضيةِ. ولكن، بلا شكٍّ أيضًا، كشف عن اختراقاتٍ كبيرةٍ على مستوى الوعي لدى كثيرين ممن يُفترضُ أن يكونَ المنبرُ الحسينيُّ قد جعلهم أكثرَ تحصنًا ووعيًا.
عاشوراءُ هذا العامِ ليست ككلِّ الأعوامِ؛ إن من يجلسُ في حضرةِ المنبرِ الحسينيِّ على اختلافِ أشكالِه، إنما يأتيه وهو محاطٌ بكمٍّ هائلٍ من التحدياتِ الأمنيةِ والاقتصاديةِ والاجتماعيةِ، ويعيشُ مستوى عاليًا من القلقِ والتهديدِ. يأتي المنبرَ ولا يجدُ السيدَ حسن نصر الله، الذي اعتادَهُ مُبَلْسِمًا لآلامِه، ومحييًا لآمالِه.
دعونا نعترفْ بأن البعضَ منا – وما أكثرَهم – كانوا مصابين بداءِ الاتكاليةِ على شخصِ الشهيدِ الأسمى ليخوضَ عنهم غمارَ هذه الحربِ على جبهتِها التوعويةِ. وها هم الآن يعيدون استنساخَ اتكاليتِهم على شخصِ الأمينِ العامِّ الشيخِ نعيم قاسم، وكأننا نعيشُ في ظرفٍ عاديٍّ، غيرَ آبهين بحجمِ الضراوةِ والاستهدافِ غيرِ الأخلاقيِّ للنيلِ من وعينا وثباتِنا ووجودِنا.
لذلك، يصيرُ بداهةً التساؤلُ: ماذا يفعلُ المنبرُ الحسينيُّ في هذه الحربِ؟ من يعتليه – بغضِّ النظرِ عن وصفِه ومنصبِه – ليخطبَ باسمِ الحسين (ع) وحفيدِه المهدي (عج)، وحتى يؤديَ هذا الدورَ الإلهيَّ التوعويَّ الكبيرَ؟
هذه الأسئلةُ موجهةٌ لكلِّ من يديرون هذه الجبهةَ التوعويةَ على اختلافِ منابرِها، من حسينياتٍ ومساجدَ وباحاتٍ عامةٍ، ووسائلِ إعلامٍ، ومنصاتِ تواصلٍ اجتماعيٍّ؛ لأن صناعةَ الإنسانِ والمجتمعِ الواعي تبدأ من حسنِ الاختيارِ والرقابةِ والتوجيهِ.
إن نتائجَ الحروبِ لا تحسمُها كثافةُ القصفِ والقتلِ والتدميرِ، بل مستوى العزيمةِ والإرادةِ والوعي. وكما للشيطانِ منابرُهُ للتحكمِ بالوعي، فإن لله منابرَ أيضًا، نحبُّ أن نطلقَ عليها الصفةَ الحسينيةَ؛ فهل ستحمي وعينا من اختراقِ الشيطانِ الأمريكيِّ؟
د. أحمد الشامي