قوّةُ مجتمعِ المقاومةِ في مواجهةِ الحربِ الناعِمَةِ
الدكتور حسن الزين
مقدّمة:
عندما أطلقَ سيدُ شهداءِ الأمّةِ السيدُ حسنُ نصرِ اللهِ -رضوانُ اللهِ عليه- شعارهُ الشريفَ مناديًا بأعلى صوتِهِ المقدّسِ: «يا أَشرفَ النّاسِ، وأَطهَرَ النّاسِ، وأَكرَمَ النّاسِ، السّلامُ عليكم...» لم يَقْصِدْ تأكيدَ حقيقةٍ عاطفيةٍ فحسب، بل ثبتَ مَعطَى حقيقيًّا يكشِفُ عن أهمِّ سلاحٍ استراتيجيٍّ تملكهُ المقاومةُ؛ وهو التّفافُ البيئةِ الحاضِنَةِ حولَ مشروعِ المقاومةِ بطريقةٍ لا يُمكنُ تفكيكُها أو ضربُها أو تسميمُها.
حقًّا، بعدَ أربعينَ عامًا من ظهورِ المقاومةِ، ورغمَ كلِّ المِحَنِ والحروبِ الداخليّةِ والخارجيّةِ، بقي جمهورُ المقاومينَ وفيًّا صادقًا، باذِلًا مهجَتَهُ في سبيلِها. أدهَشَ خبراءُ وباحثونَ ومراقبونَ صلابةَ هذا المجتمعِ وسرعةَ حركتِه وتلبيتَهُ للمتطلّباتِ، وفَهمَهُ ووعْيَهُ الجَمعيّ؛ وقد أقَرّتْ بذلك مراكزُ أبحاثٍ لدى الطرفِينِ، ونطَقَتْ به وسائلُ إعلامِ الخصومِ والأعداءِ قبلَ الأصدقاءِ، ورصدتْهُ سفاراتٌ وجهاتٌ دوليّةٌ تراقبُ المشهدَ بعدَ حربِ أوَّلِ البأسِ وطوفانِ الأقصى.
تقاسُ قوّةُ المجتمعاتِ بمدى فعاليّتِها واستجابَتِها للأحداثِ والتحدّياتِ التي تَتعَرّضُ لها في محطاتٍ مفصليّةٍ، وبمواجهتِها لها بصلابةِ موقفٍ وصبرٍ ووعيٍ يحفظُ تماسكَها وهويّتها. يقولُ خبراءُ القياسِ والاستطلاعِ والإحصاءِ إنّ القياسَ يتمُّ بأخذِ عيناتٍ معيّنةٍ ودِراسةِ السلوكياتِ تجاهَ موضوعٍ أو قضيةٍ تَهِمُّ المجتمعَ، ومن ثَمَّ استنتاجُ اتجاهاتٍ عامةٍ ومدى تَقبّلِ المجتمعِ لسلوكٍ معيّنٍ أو عزوفِه عنه.
عندَ تطبيقِ هذا المعيارِ على مجتمعِ المقاومةِ خلال حربِ أوَّلِ البأسِ وما قبلَها من حربِ الإسنادِ في طوفانِ الأقصى، وبعدَ مرورِ أكثرَ من ستمائةِ يومٍ على اندلاعِ الأحداثِ، أثبتَ المجتمعُ صبرَهُ على مآسي الدمارِ ومنعِ الإعمارِ، وحضورَهُ الحاشِدَ في التّشييعِ المِليونِيِّ، وتصرّفَهُ ببصيرةٍ سياسيّةٍ في الانتخاباتِ البلديّةِ. برهنَ هذا المجتمعُ أنّه مجتمعٌ مقاومٌ لا نظيرَ لهُ في التلبيةِ والتّضحيةِ والوفاءِ والتمسُّكِ بشعاراتِ المقاومةِ وبالقيمِ التي تَتطلّبُها هذه الشعاراتُ؛ من بذلِ النفسِ والمالِ، والصّبرِ والبصيرةِ، وسرعةِ الحركةِ، والوعيِ السياسيِّ تجاهَ الأحداثِ.
السّؤالُ العميقُ لدى العدوِّ والصديقِ يَبقى: ما سرُّ هذه القوّةِ والمنعةِ لدى المجتمعِ المقاومِ، رغمَ أنّ العدوَّ شنَّ أضخمَ حربٍ نفسيّةٍ وإعلاميّةٍ في التاريخِ، شاركَ فيها قنواتٌ وشاشاتٌ ومنصّاتٌ وصحفٌ معادِيةٌ بمئاتٍ وربّما آلافٍ، وأنفقَت عليها ملياراتِ الدولاراتِ؟
أولًا: أجندةُ العدوِّ لتفكيكِ هوِيّةِ مجتمعِ المقاومةِ وعَناصِرِ قوّتِه:
عندَ دراسةِ أركانِ الحربِ النفسيّةِ وحربِ الوعيِ أو «الحربِ الناعِمَةِ» بمختلفِ النماذجِ والتطبيقاتِ والشّروطِ، والموجّهَةِ إلى مجتمعِ المقاومةِ خلالَ ستمائةِ يومٍ، يتّضحُ أنّها استهدفتْ خمسَ عناصرَ قوّةٍ في حزبِ اللهِ وفقَ الآتي:
1. تَحطيمُ المعنوياتِ عن طريقِ إقناعِ الجمهورِ بسرديّةِ الهزيمةِ واستحالةِ النهوضِ والبناءِ (وَصَلَ الحالُ إلى مهاجمةِ واستهدافِ حتى ضريحِ الشهيدِ منَ سَيّدِ الأُمّةِ).
2. إفقادُ ثِقةِ الجمهورِ بالمقاومةِ والتنظيمِ، وخاصةً بالقيادةِ، وتحطيمُ صورةِ حزبِ اللهِ.
3. بثُّ الشائعاتِ عن أسبابِ الخللِ وتعميقُها وترسيخُها، وربطُها بخللٍ بنيويٍّ يُستحيلُ علاجهُ، والإيحاءُ بأنّ الخللَ سببُهُ خيانةٌ أو خَرقٌ بشريٌّ، وأنَّ الإصلاحَ مستحيلٌ.
4. إقناعُ الجمهورِ بحتميّةِ التفوُّقِ التكنولوجيِّ الذي لا حولَ ولا قوّةَ لمواجهتِهِ، وبأنّ العدوَّ قادرٌ على الرّصدِ والاطّلاعِ على كلِّ شيءٍ، وأنَّ الهزيمةَ لا مَفرَّ منها.
5. بثُّ سرديّةِ «الحلِّ الدبلوماسيِّ» وتسليمِ السلاحِ وتركِ مشروعِ المقاومةِ والتسليمِ للدّولةِ، دونَ تعريفٍ واضحٍ لهذه الدولةِ وماهيّتها وعناصرِ قوّتها.
تَجمِيعُ الرّصدِ والسردياتِ والموادِّ التي بثّتْها ماكينةُ العدوِّ الإعلاميّةُ خلالَ ستمائةِ يومٍ يُشيرُ إلى وجودِ غرفةِ عملياتٍ تَمتلكُ ترسانةً ضخمةً من ضخِّ المعلوماتِ المضلِّلةِ والشائعاتِ في محاولةٍ لتحطيمِ المعنوياتِ وكسرِ الإراداتِ وتحقيقِ الانهيارِ والهزيمةِ، وهو ما يهدفُ إلى إعاقَةِ فرصِ إعادةِ البناءِ والنهوضِ. يظهرُ هذا الهَدفُ المركزيُّ بوضوحٍ في تصريحاتِ قادةِ العدوِّ، وبالأخصِّ من المجرمِ نتنياهو ومستشارهِ وزيرِ الشؤونِ الاستراتيجيةِ رونِ ديرمر؛ فقد صرّحا بأنّ اتخاذَ قرارِ اغتيالِ الشهيدِ كان مبنيًا على اقتناعٍ بأنّ غيابهِ سيمنعُ إعادةَ بناءِ حزبِ اللهِ وتعافيهِ، حتى لو لم يبقَ من قدراتِ الحزبِ إلّا خمسةُ بالمائةٍ، إذْ الهدفُ المركزيُّ هو منعُ العودةِ إلى الوضعِ السابقِ[1].
ولذلك، أذهلتْ سرعةُ البناءِ والتعافي لدى مجتمعِ المقاومةِ الجميعَ، إذ كانت ردًّا مباشرًا من هذا المجتمعِ على الاستهدافِ الصهيونيّ عبرَ بثِّ الإحباطِ واليأسِ والتضليلِ. فأفشلَ مجتمعُ المقاومةِ تصوّرَ العدوِّ الخاطئ، ودحضَ فرضيّتَيْه القائمتَيْن على أنَّ اغتيالَ القياداتِ سيؤدّي إلى موتِ روحِ المقاومةِ والمناعةِ وتفكّكِ المجتمعِ، مُظهِرًا مناعةً واندفاعةً قويّةً في محطّاتٍ عدّةٍ سنشيرُ إليها لاحقًا.
ثانيًا: مؤشّراتٌ ومحطّاتُ تعافي مجتمعِ المقاومةِ:
أولى هذه المؤشّراتِ كانت اندفاعةَ الشعبِ يومَ الإعلانِ عن وقفِ إطلاقِ النارِ بتاريخِ 27/11/2025، حيثُ خرجَ الناسُ للاحتفالِ بالصمودِ والانتصارِ رغمَ الوجعِ والألمِ اللذينِ أصاباهُم. وتأكيدًا لذلك، وبعدَ انتهاءِ فترةِ التمديدِ الثانيةِ لوقفِ إطلاقِ النارِ التي أعلنَ عنها العدوُّ في 18 شباطَ 2025، تدفّقَ الناسُ بغزارةٍ فاجأتِ الصديقَ والعدوَّ على حدٍّ سواء، فعادوا إلى قراهم متحدّينَ تهديداتِ العدوِّ بقصفِ المدنيّينَ الوافدينَ، ما أدّى إلى سقوطِ عددٍ كبيرٍ منَ الشهداءِ والجرحى بالعشراتِ. ومعَ ذلكَ، استمرَّ تدفّقُ الناسِ ورجوعُهم إلى قراهم ومدنِهم بثباتٍ وإصرارٍ.
أمّا المؤشّرُ الثاني، فكان بتاريخِ 13/2/2025، حينَ مُنِعتْ طائرةٌ إيرانيّةٌ تقلُّ ركّابًا لبنانيّين منَ الهبوطِ في مطارِ بيروتَ الدوليّ، بذريعةِ العقوباتِ الأميركيّةِ والتهديدِ الإسرائيليّ. وقد انتشرتْ حينها مقاطعُ فيديو على مواقعِ التواصلِ الاجتماعيّ تُظهِرُ لبنانيّين عالقينَ في مطارِ طهرانَ بعدَ رفضِ مطارِ بيروتَ استقبالَ الطائرةِ القادمةِ من إيران، إثرَ إلغاءِ الإذنِ الممنوحِ لها. وردًّا على ذلك، تدفّقَ آلافُ المحتجّينَ خلالَ ساعاتٍ، وقطعوا طريقَ المطارِ، خصوصًا وأنَّ على متنِ الطائرةِ ركّابًا لبنانيّين، فأضرَمَ المحتجّونَ الإطاراتَ المشتعلةَ وسطَ حالةِ غضبٍ واسعةٍ[2].
المحطّةُ الثالثةُ للجمهورِ والمجتمعِ كانت في يومِ تشييعِ شهيدِ الأُمّةِ السيّدِ حسنِ نصرِ اللهِ ـ رضوانُ اللهِ عليه ـ، حيثُ بلغَ الحضورُ المليونيُّ (وهو الرقمُ الأدنى وفقَ تقديراتِ الخبراءِ، ومنهم شركةُ "الدوليّةُ للمعلومات" وجهاتٌ أُمميّةٌ لبنانيّةٌ وصحافةٌ دوليّةٌ).
لقد فاجأَ هذا التشييعُ من حيثُ الحشدِ والتنظيمِ جميعَ الخبراءِ، وصُنِّفَ بأنّه التشييعُ الأكثرُ ضخامةً منذَ جنازةِ الزعيمِ جمالِ عبدِ الناصر، معَ فارقٍ جوهريٍّ يتمثّلُ في أنّ عددَ سكّانِ لبنانَ يقلُّ بنحوِ عشرينَ مرّةً عن عددِ سكّانِ مصرَ (لبنانُ خمسةُ ملايينَ نسمةٍ / مصرُ مئةُ مليونٍ)، وعليهِ فإنّ حجمَ التشييعِ لجنازةِ الشهيدِ الأقدسِ يُعَدُّ نسبيًّا الأعلى في تاريخِ العربِ.
ويرى هؤلاءِ الخبراءُ أنّ قيمةَ هذا الحشدِ لا تكمُنُ في لحظتِه الآنيةِ فقط، بل في الثمانيِ والأربعينَ ساعةً التي سبقتْهُ، إذْ كيفَ لحزبٍ يُفترَضُ أنَّهُ "انتهى" أن يُقنِعَ أهالي الشهداءِ والجرحى والمنكوبينَ والمشرّدينَ والنازحينَ بالتوافدِ إلى بيروتَ قبلَ أربعٍ وعشرينَ ساعةً من موعدِ التشييعِ، وقضاءِ ساعاتٍ طويلةٍ على الطرقاتِ بينَ الجنوبِ والبقاعِ وبيروتَ رغمَ سوءِ أحوالِ الطقسِ؟!
هذا المشهدُ الكبيرُ أثارَ حفيظةَ الطامحينَ إلى خَرقِ الثنائيِّ (حزبِ اللهِ وحركةِ أمل) في الانتخاباتِ النيابيّةِ المقبلةِ، إذْ لم يكنْ يومُ الأحدِ مجرّدَ تشييعٍ فحسب، بل كانَ ـ كما وصَفَهُ بعضُ المحلّلينَ ـ «انتخابًا بالأقدامِ» لحزبِ اللهِ، خصوصًا وأنّ الحشدَ حملَ رسائلَ واضحةً من الجمهورِ تُؤكّدُ التوحّدَ في وجهِ الهجمةِ التي يتعرّضُ لها، الأمرُ الذي يجعلُ مهمّةَ الخصومِ أكثرَ صعوبةً وتعقيدًا[3].
ولهذا، شعرَ الأعداءُ والخصومُ بضيقٍ شديدٍ في يومِ التشييعِ المليونيّ، الذي رسمَ صورةَ حزبِ اللهِ كتنظيمٍ فولاذيٍّ، حيويٍّ، ومتجدّدٍ، رافعًا شعارَ الاستمرارِ تحتَ عنوانِ: "أنا على العهد"[4].
المؤشِّرُ الرابعُ كانَ في الانتخاباتِ البلديّةِ التي كرّستْ قوّةَ مجتمعِ المقاومةِ، وصَدَمَتِ السفاراتِ والمنظّماتِ والأجهزةَ والأحزابَ المعاديةَ.
لقد أَسفرتِ الانتخاباتُ البلديّةُ التي جَرَتْ في شهرِ أيّارَ من عامِ 2025 عن فوزٍ كاسحٍ للوائحِ حزبِ اللهِ وحركةِ أمل في كافّةِ المناطقِ والمدنِ والبلداتِ التي للثنائيِّ الشيعيِّ فيها حضورٌ، من البقاعِ إلى بيروتَ والجبلِ والجنوبِ.
وفي هذا الإطارِ، أكّدَ الباحثُ في «الدوليّةِ للمعلوماتِ» محمّدُ شمسُ الدين أنّ نتائجَ انتخاباتِ الجنوبِ «كرّستِ التصاقَ أغلبيّةِ الشيعةِ بـ(أمل) و(حزبِ اللهِ) أكثرَ من ذي قبل»[5]؛ ورأى في تصريحٍ لصحيفةِ «الشرق الأوسط» أنّ هذا الواقعَ "قد ينسحبُ على الاستحقاقِ النيابيِّ في شهرِ أيّارَ (مايو) 2026، ما لم يتغيّرْ الوضعُ القائمُ، وتبدأْ عمليّةُ إعمارِ المناطقِ المهدّمةِ من قِبَلِ الدولِ وقالَ شمسُ الدين: "فازت لائحةُ (التنميةِ والوفاءِ) في مدينةِ صورٍ بفارقِ ستّةِ آلافِ صوتٍ بينَ آخرِ الرابحينَ فيها والمرشّحِ الذي نالَ النسبةَ الأعلى من الأصواتِ في اللائحةِ الخاسرةِ. أمّا في مدينةِ النبطيّةِ، فقد بلغَ الفارقُ نحوَ أربعةِ آلافِ صوتٍ لمصلحةِ لائحةِ (الثنائيِّ). وهذا الواقعُ يُشبهُ إلى حدٍّ كبيرٍ الفارقَ الذي حقّقهُ تحالفُ (أمل) و(حزبِ اللهِ) قبلَ أسبوعٍ في انتخاباتِ مدينةِ بعلبك (البقاع) بفارقِ ستّةِ آلافٍ وأربعمائةِ صوتٍ عن اللوائحِ المنافسةِ، ما عزّزَ حضورَ هذا الثنائيِّ أكثرَ من الانتخاباتِ البلديّةِ عامَ 2016".
ثالثًا: العدوُّ يرصدُ مؤشّراتِ التصويتِ في البلديّاتِ والتخطيطَ للاستحقاقِ البرلمانيِّ 2026:
أشارتْ تقاريرُ صحفيّةٌ إلى أنّ السفاراتِ الأجنبيّةَ الكبرى، ومعها العديدُ من السفاراتِ العربيّةِ، راقبتِ الانتخاباتِ البلديّةَ في مناطقِ حزبِ اللهِ بكلِّ تفاصيلِها: لجهةِ تعامُلِ جمهورِ المقاومةِ مع الاستحقاقِ، ونِسَبِ الاقتراعِ، وحركةِ الحزبِ، ولا سيّما في بعلبك، وبريتال، واللبوة، والقصر. وتمّتِ المراقبةُ بشكلٍ مباشرٍ، عبرَ أشخاصٍ يعملونَ في إطارِ متابعةِ الانتخاباتِ مدنيًّا، خصوصًا أنّ السفاراتِ الأجنبيّةَ كانتْ تُعوّلُ على انخفاضِ نِسَبِ الإقبالِ، بناءً على تقاريرَ وصلَتْها تُفيدُ بأنّ البيئةَ الداخليّةَ للحزبِ تتململُ، وأنّ هذا التململَ سيظهرُ في صناديقِ الاقتراعِ، تحديدًا في مناطقِ «خزانِ الحزبِ» الأساسيّةِ في البقاعِ. غيرَ أنّ المفاجأةَ لهؤلاءِ كانتْ صادمةً، إذ تجاوزتْ نسبةُ الاقتراعِ في مناطقِ حزبِ اللهِ السبعينَ في المئةِ وما فوق[6].
وقد صبّتِ الأصواتُ لمصلحةِ التحالفِ مع حركةِ أمل، تأييدًا لنهجِ المقاومةِ وخيارِها السياسيِّ. فجاءَ الردُّ على العقوباتِ الأميركيّةِ عبرَ صناديقِ الاقتراعِ، كما جاءَ تأكيدًا لنهجِ المقاومةِ في قتالِ الإرهابيّينَ في سوريا. وشكّلتْ عوائلُ الشهداءِ والجرحى النسبةَ الأكبرَ بينَ المقترعينَ، فجاءَ النزولُ الشعبيُّ الكثيفُ ليُوجّهَ رسائلَ واضحةً في كلِّ الاتجاهاتِ.
أكّدتِ الوقائعُ الميدانيّةُ فشلَ جميعِ المحاولاتِ لضربِ الثقةِ بالمقاومةِ، وجاءَ الفوزُ الكاسحُ في البلداتِ البقاعيّةِ ليقلبَ كلَّ المعادلاتِ، وليصدمَ زُوّارَ السفاراتِ وتقاريرَهم التي لم تَستندْ إلى أيّ وقائعَ. وبالتالي، فإنّ التسريباتِ عن «تململٍ وتمرّدٍ» داخلَ البيئةِ المقاومةِ كانتْ باطلةً، وقد تلقّتِ السفاراتُ رسائلَ جمهورِ المقاومةِ الواضحةَ والصريحةَ.
واللافتُ، بحسبِ المتابعينَ المحلّيينَ والأجانبِ، أنّ وسائلَ الإعلامِ اللبنانيّةَ والعربيّةَ والدوليّةَ وصفتِ الانتخاباتِ في القرى البقاعيّةِ الشيعيّةِ بأنّها الأفضلُ بينَ المناطقِ اللبنانيّةِ، إذْ لم تُسجَّلْ أيُّ شوائبَ، ومارسَ الناخبونَ من مختلفِ الاتجاهاتِ ـ حتى المعارضينَ لحزبِ اللهِ ـ دورَهم الانتخابيَّ بحرّيّةٍ وديموقراطيّةٍ تامّةٍ. ولم تُسجَّلْ أيُّ حوادثَ أمنيّةٍ، حتى إنَّ مناصري الشيخِ صبحي الطفيلي في بريتال لم يتقدّموا بأيِّ شكوى ولم يُعلنوا عن تعرّضِهم لأيّ مضايقةٍ. كما لم تُسجّلِ القوى الأمنيّةُ أيَّ حالاتِ رشاوى في القرى الشيعيّةِ، فيما مارستْ قياداتٌ من قوى 14 آذارَ وما يُسمّى بـ«المجتمعِ المدنيِّ» في بعلبك حقَّها الانتخابيَّ بحرّيّةٍ تامّةٍ، وبدعمٍ من منظّماتٍ دوليّةٍ وسفاراتٍ عربيّةٍ.
خاتمة:
أظهرتِ الأحداثُ الممتدّةُ على مدى ستمائةِ يومٍ منذَ عمليّةِ «طوفانِ الأقصى» أنّ مجتمعَ المقاومةِ ما زالَ قويًّا، منيعًا، وحصينًا، بل ازدادَ وعيًا وصبرًا رغمَ شدّةِ الضرباتِ وقساوتِها، ورغمَ الحربِ النفسيّةِ والناعمةِ التي تُشنُّ عليهِ ليلَ نهارٍ.
إنَّ افتخارَ السيّدِ الشهيدِ ـ رضوانُ اللهِ عليهِ ـ وكلِّ الشهداءِ بهذا المجتمعِ لم يكنْ رهانًا عاطفيًّا، بل معرفةً بنوعيّةِ هذا الشعبِ وطينتِه وجبلتِه، فهو الذي أنشأَ مشروعَ المقاومةِ بنفسِه، وصاغَ هويّتَهُ بيديهِ.
وبرهنَ أنّ انتماءَ المقاومةِ إليهِ انتماءٌ طبيعيٌّ وضروريٌّ، لا قائمٌ على التسويقِ أو الإكراهِ أو المالِ أو الرشاوى. لقد ثبتَ أنّ المقاومةَ حاجةٌ للمجتمعِ، كما أنّهُ حاجةٌ لها. فالمقاومةُ ليستْ تنظيمًا أو مجموعةَ شخصيّاتٍ وزعاماتٍ، بل هويّةٌ اجتماعيّةٌ متجذّرةٌ أنتجَها المجتمعُ وصنعَها بنفسِه. وما دامَ هذا المجتمعُ حيًّا نابضًا، سيبقى يُنتجُ هويّتَه ويحافظُ عليها رغمَ المِحنِ والجراحِ.
وهذا ما يفرِضُ على النُّخبِ الثقافيّةِ والإعلاميّةِ والسياسيّةِ أن تعتبرَ المجتمعَ المقاومَ الهدفَ الأوّلَ في كافّةِ المشاريعِ والأولويّاتِ والبرامجِ، فهو خزانُ المقاومةِ ونبضُها، وخدمتُهُ بحدقةِ العينِ واجبٌ ملازمٌ للوصيّةِ الأساسِ: حفظِ المقاومةِ.
[1] مقابلة مع رون ديرمر في منتدى الوكالة الصهيونية (JNS). (2025، 29 نيسان). منشورة على قناة YouTube..
[2] قناة العربية. (2025، 13 شباط). قطع طرقات وغضب.. منع طائرة إيرانية من الهبوط بمطار بيروت.
[3] أيوب، ندى. (2025، 25 شباط). التشييع يصدم «التغييريين» و«السياديين»: حزب الله تعافى فعلًا. جريدة الأخبار.
[4] أيوب، ندى. المصدر نفسه.
[5] ذياب، يوسف. (2025، 25 أيار). نتائج «محليات» جنوب لبنان تكرّس نفوذ الأحزاب، الخطاب الطائفي جيّر الأكثرية الشيعية لثنائي «أمل» و«حزب الله». جريدة الشرق الأوسط (السعودية).
[6] الذيب، رضوان. (2025، 11 أيار). السفارات الأجنبية والعربية راقبت الانتخابات في مناطق حزب الله.